فصل: تفسير الآيات (16- 17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (13- 15):

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15)}
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} بل يقولون اختلقه، {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}.
فإن قيل: قد قال في سورة يونس: {فأتوا بسورة مثله}، وقد عجزوا عنه فكيف قال: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} فهو كرجل يقول لآخر: أعطني درهما فيعجز، فيقول: أعطني عشرة؟.
الجواب: قد قيل سورة هود نزلت أولا.
وأنكر المبرد هذا، وقال: بل نزلت سورة يونس أولا وقال: معنى قوله في سورة يونس: {فأتوا بسورة مثله}، أي: مثله في الخبر عن الغيب والأحكام والوعد والوعيد، فعجزوا فقال لهم في سورة هود: إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثله في الأخبار والأحكام والوعد والوعيد فأتوا بعشر سور مثله من غير خبر ولا وعد ولا وعيد، وإنما هي مجرد البلاغة، {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} واستعينوا بمن استطعتم، {مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} يا أصحاب محمد. وقيل: لفظه جمع والمراد به الرسول صلى الله عليه وسلم وحده. {فَاعْلَمُوا} قيل: هذا خطاب مع المؤمنين. وقيل: مع المشركين، {أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} يعني: القرآن. وقيل: أنزله وفيه علمه، {وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي: فاعلموا أن لا إله إلا هو، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} لفظه استفهام ومعناه أمر، أي: أسلموا.
قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: من كان يريد بعمله الحياة الدنيا، {وَزِينَتَهَا} نزلت في كل من عمل عملا يريد به غير الله عز وجل: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} أي: نوف لهم أجور أعمالهم في الدنيا بسعة الرزق ودفع المكاره وما أشبهها. {وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} أي: في الدنيا لا ينقص حظهم.

.تفسير الآيات (16- 17):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17)}
{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} أي: في الدنيا {وَبَاطِلٌ} {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
اختلفوا في معنى هذه الآية قال مجاهد: هم أهل الرياء. وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر»، قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال: «الرياء».
قيل: هذا في الكفار، وأما المؤمن: فيريد الدنيا والآخرة، وإرادته الآخرة غالبة فيجازَى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة.
وروينا عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل لا يظلم المؤمن حسنة، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطي بها خيرا».
قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ} بيان، {مِنْ رَبِّهِ} قيل: في الآية حذف، ومعناه: أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها، أو مَنْ كان على بينة من ربه كمن هو في الضلالة والجهالة، والمراد بالذي هو على بينة من ربه: النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} أي: يتبعه من يشهد به بصدقه. واختلفوا في هذا الشاهد فقال ابن عباس، وعلقمة، وإبراهيم، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وأكثر أهل التفسير: إنه جبريل عليه السلام.
وقال الحسن وقتادة: هو لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن جريج عن مجاهد قال: هو ملك يحفظه ويسدده.
وقال الحسين بن الفضل: هو القرآن ونظمه وإعجازه.
وقيل: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال علي: ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه آية من القرآن، فقال له رجل: وأنت أيُّ شيء نزل فيك؟ قال: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ}.
وقيل: شاهد منه هو الإنجيل.
{وَمِنْ قَبْلِهِ} أي: ومن قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: من قبل نزول القرآن. {كِتَابُ مُوسَى} أي: كان كتاب موسى، {إِمَامًا وَرَحْمَة} لمن اتبعها، يعني: التوراة، وهي مصدقة للقرآن، شاهدة للنبي صلى الله عليه وسلم، {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} يعني: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: أراد الذين أسلموا من أهل الكتاب.
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ} أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: بالقرآن، {مِنَ الأحْزَابِ} من الكفار من أهل الملل كلها، {فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}.
أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي، أخبرنا أبو طاهر الزيادي، أخبرنا محمد بن الحسين القطان، أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، ولا يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلتُ به إلا كان من أصحاب النار».
قوله تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} أي: في شك منه، {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}.

.تفسير الآية رقم (18):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)}
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فزعم أن له ولدا أو شريكا، أي: لا أحد أظلم منه، {أُولَئِك} يعني: الكاذبين والمكذبين، {يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} فيسألهم عن أعمالهم.
{وَيَقُولُ الأشْهَادُ} يعني: الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم، قاله مجاهد.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إنهم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو قول الضحاك.
وقال قتادة: الخلائق كلهم.
وروينا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كَنَفَهُ ويسترُه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته»، وأما الكفار والمنافقون فينادي بهم على رؤوس الخلائق، {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}.

.تفسير الآيات (19- 22):

{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ (22)}
{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يمنعون عن دين الله، {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}.
{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ} قال ابن عباس: سابقين. قال قتادة: هاربين. وقال مقاتل: فائتين. {فِي الأرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} يعني أنصارا وأعوانا يحفظونهم من عذابنا، {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ} أي: يزاد في عذابهم. قيل: يضاعف العذاب عليهم لإضلالهم الغير واقتداء الأتباع بهم.
{مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} قال قتادة: صم عن سماع الحق فلا يسمعونه، وما كانوا يبصرون الهدى. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أخبر الله عز وجل أنه حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا قال: {ما كانوا يستطيعون السمع} وهو طاعته، وفي الآخرة قال: {فلا يستطيعون}، خاشعة أبصارهم.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} غبنوا أنفسهم، {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} يزعمون من شفاعة الملائكة والأصنام.
{لا جَرَمَ} أي: حقا. وقيل: بلى. وقال الفراء: لا محالة، {أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ} يعني: من غيرهم، وإن كان الكل في الخسار.

.تفسير الآيات (23- 26):

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)}
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا} قال ابن عباس: خافوا. قال قتادة: أنابوا. وقال مجاهد: اطمأنوا. وقيل: خشعوا. وقوله: {إِلَى رَبِّهِمْ} أي: لربهم. {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} المؤمن والكافر، {كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا} قال الفراء: لم يقل هل يستوون، لأن الأعمى والأصم في حَيِّز كأنهما واحد؛ لأنهما من وصف الكافر، والبصير والسميع في حيز كأنهما واحد، لأنهما من وصف المؤمن، {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي تتعظون.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب {أني} بفتح الهمزة أي: بأني، وقرأ الباقون بكسرها، أي: فقال إني، لأن في الإرسال معنى القول: إني لكم نذير مبين.
{أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} أي: مؤلم. قال ابن عباس: بعث نوح عليه السلام بعد أربعين سنة، ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة، وعاش بعد الطوفان ستين سنة، وكان عمره ألفا وخمسين سنة.
وقال مقاتل: بعث وهو ابن مائة سنة.
وقيل: بعث وهو ابن خمسين سنة.
وقيل: بعث وهو ابن مائتين وخمسين سنة، ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة، وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة، فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة، قال الله تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} [العنكبوت- 14] أي: فلبث فيهم داعيا.

.تفسير الآيات (27- 29):

{فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)}
{فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} والملأ هم الأشراف والرؤساء. {وَمَا نَرَاكَ} يا نوح، {إِلا بَشَرًا} آدميا، {مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} سَفَلَتُنا، والرذل: الدُّون من كل شيء والجمع: أَرْذُل، ثم يجمع على أراذل، مثل: كَلْب وأَكْلُب وأَكالب، وقال في سورة الشعراء: {واتبعك الأرذلون} يعني: السفلة. وقال عكرمة: الحاكة والأساكفة، {بَادِيَ الرَّأْيِ} قرأ أبو عمرو {بادئ} بالهمز، أي: أول الرأي، يريدون أنهم اتبعوك في أول الرأي من غير رَوِيَّة وتفكر، ولو تفكروا لم يتبعوك. وقرأ الآخرون بغير همز، أي ظاهر الرأي من قولهم: بدا الشيء: إذا ظهر، معناه: اتبعوك ظاهرا من غير أن يتدبروا ويتفكروا باطنا. قال مجاهد: رأي العين، {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}.
{قَالَ} نوح، {يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي: بيان من ربي {وَآتَانِي رَحْمَةً} أي: هدى ومعرفة، {مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أي: خَفِيَتْ والتبست عليكم. وقرأ حمزة والكسائي وحفص: {فَعُمِّيَتْ عليكم} بضم العين وتشديد الميم، أي: شُبِّهت ولُبِّست عليكم. {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} أي: أنلزمكم البينة والرحمة، {وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} لا تريدونها. قال قتادة: لو قدر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يلزموا قومهم الإيمان لألزموهم ولكن لم يقدروا.
قوله: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا} أي: على الوحي وتبليغ الرسالة، كناية عن غير مذكور، {إِنْ أَجْرِيَ} ما ثوابي، {إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} هذا دليل على أنهم طلبوا منه طرد المؤمنين، {إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِم} أي: صائرون إلى ربهم في المعاد فيجزي من طردهم، {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ}.

.تفسير الآيات (30- 34):

{وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)}
{وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} من يمنعني من عذاب الله، {إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} تتعظون.
{وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} فآتي منها ما تطلبون، {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} فأخبركم بما تريدون. وقيل: إنهم لما قالوا لنوح: إن الذين آمنوا بك إنما اتبعوك في ظاهر ما ترى منهم، قال نوح مجيبا لهم: ولا أقول لكم: عندي خزائن غيوبِ الله، التي يعلم منها ما يضمر الناس، ولا أعلم الغيب، فأعلم ما يسترونه في نفوسهم، فسبيلي قبول ما ظهر من إيمانهم، {وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} هذا جواب قولهم: {وما نراك إلا بشرا مثلنا}. {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} أي: تحتقره وتستصغره أعينكم، يعني: المؤمنين، وذلك أنهم قالوا: هم أراذلنا، {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} أي: توفيقا وإيمانا وأجرا، {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} من الخير والشر مني، {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} لو قلت هذا.
{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا} خاصمتنا، {فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ} يعني: بالعذاب، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} بفائتين.
{وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} أي نصيحتي، {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} يضلكم، {هُوَ رَبُّكُمْ} له الحكم والأمر {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجزيكم بأعمالهم.